بمناسبة الخطوة التي اتخذتها وزارة التربية والتعليم في إدخال نظام الآيباد والتابلت في بعض صفوف المرحلة الثانوية، فكرت بكتابة مقالي هذا، وهو جامع لعدة مقالات قرأت عنها من قبل.
تاريخياً وفي عام 500 قبل الميلاد، انتقد سقراط ظهور الكتابات العلمية الورقية، وقال “إنها ستقلل الاعتماد على الذاكرة العقلية، وعليه سينجم عن اعتمادنا الكتابة أننا نحصل على سراب المعرفة لا المعرفة ذاتها”!
وفي عام 1970 ومع دخول الآلات الحاسبة للمدارس، كانت مصدر قلق كبير للمعلمين، حيث كان الكثير منهم يعتقد أنها ستقلل الكفاءة الحسابية، بمعنى آخر كانوا يظنون مثلما ظن سقراط في الكتابة، ولكن هذه المرة مع الحساب والتحليل! (ببساطة اسأل أي طفل في المرحلة المتوسطة عن عملية حسابية مثل 13 ضرب 14 وانظر كيف سيحسب الناتج!).
في عام 2013 كانت هناك طالبة دكتوراه في علم النفس في جامعة كاليفورنيا تدعى بام مولر، تعتمد في كتابتها للمحاضرات على اللاب توب، وفي أحد الأيام نسيت إحضار اللاب توب ما جعلها تعتمد على الطريقة التقليدية باستخدام القلم والورق، وقد لاحظت أنها استوعبت كمية أكبر في هذه المرة عن المرات السابقة! وناقشت تلك الملاحظة مع المشرف الأكاديمي الذي حضر بعد أيام قليلة اجتماع هيئة التدريس، وكان يقوم بكتابة نقاط الاجتماع باستخدام اللاب توب، وفجأة استذكر كلام طالبته بام، ولاحظ أنه على الرغم من أنه كتب كل نقاط الاجتماع، إلا أنه لا يملك أي فكرة ولا يتذكر أي شيء من الذي كتبه!
فقرر د.دانييل وطالبته أن يقوما بعمل تجارب ميدانية، ولاحظا أن الكتابة باستخدام اللاب توب قد تساعد في كتابة كمية أكبر من الورقة والقلم! ولكنها كتابة دون انتباه أو استحضار للذهن! بينما الكتابة بالقلم على الورق، على الرغم من أنها قد تكون بكمية أقل، إلا أن كمية الاستيعاب تكون أكبر من تلك المعتمدة على التكنولوجيا!
بصراحة وهذا حتى الموظفين يلاحظونه، عندما تعمل على الحاسب الآلي، يصاحب عملك الكثير من تشتت الانتباه الناتج من تصفح الإنترنت، التواصل الاجتماعي، قراءة الأخبار التي بدورها تقلل من كفاءة العمل والقراءة كذلك!
تخيل كذلك في فصل دراسي إن حصلت تلك المشكلة عن طريق تصفح الإنترنت أو أي شيء خارج الإطار التعليمي، هذا سيؤثر ليس فقط على الطالب نفسه، بل على من يجلسون بجانبه، لذلك ظهر تقرير حديث في هذا العام من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس يشدد على ضرورة منع استخدام اللاب توب من قبل الطلبة في قاعات التدريس (في كلية القانون)، وإن كان ولا بد يجب استخدامه تحت تحكّم المعلم، بحيث يكون هناك نشاط مشترك بين المعلم والطلبة، وشدد ذلك التقرير على المنع كالأساس في القرار!
أحد مصادر تشتيت الانتباه كذلك ينجم عن قراءة الطلبة لمقالة أو درس من خلال المتصفح الإلكتروني الذي يتخلل صفحاته “اضغط هنا للمزيد”، أو روابط تفصيلية تقوم بتشتيت انتباه الطالب من التركيز على المقال إلى الانتقال للتصفح بالإنترنت!
دراسة أخرى نرويجية من جامعة ستافنجر، وضحت أن من يقرؤون من الكتب يكون تحصيلهم أفضل ممن يقرؤون من متصفح إلكتروني، وأرجأت ذلك إلى قدرة القارئ على ربط المعلومة بموقعها من الكتاب وبموقعها من الصفحة “في منتصف الكتاب على الصفحة اليمنى”، هذا الشيء غير موجود في المتصفح الإلكتروني، فمن يقرأ في المتصفحات لا يشاهد إلا نفس شكل الصفحة، دون دليل ملموس بموقع المعلومة من الكتاب الذي يتناوله!
د.آن مانجين من النرويج قادت دراسة مموّلة من الاتحاد الأوروبي للمشروع، تتضمن تأثر القراءة في العالم الرقمي لمعرفة قيمة اللاب توب في التعليم، وهل يجب إيقافه أو تقليل استخدامه أو لا، (من المفترض أنه تم الانتهاء من الدراسة قبل 9 أشهر).
وفي دراسة نشرت عام 2011 من جامعة كولومبيا في نيويورك، بينت أنه عندما يعلم الشخص أن الحصول على المعلومة سهل، ستكون احتماليته لتذكّر تلك المعلومة جدا ضئيلة، المشكلة الأكبر هي أن الأشخاص يعرفون كيف يجدون المعلومة، ولكن لا يعرفون المعلومة ذاتها!
شيء آخر نود التطرّق له هو فسيولوجية الدماغ المرتبطة في القراءة والكتابة!
القراءة عبارة عن عملية دماغية مركّبة ناتجة من المناطق الدماغية المعنية باستيعاب شكل الحروف، مع تلك المناطق المعنية باستذكار كيف سمعناها من قبل، مع المناطق الدماغية المعنية بإعطاء الأوامر العصبية لنطق الكلمة!
د.كارين جيمس العالمة والباحثة في علم الأعصاب والإدراك في جامعة انديانا، وضحت أن الكتابة اليدويّة تقوّي تلك الروابط الدماغية، ومن خلال خبرتها وضحت أن الأطفال الذين يكتبون الحروف يقرؤون أفضل من أولئك الذين يعتمدون على طباعتها، مستدلّة بذلك على أبحاث علمية وضحّت نشاط بعض المناطق الدماغية عند الطلبة الذين يكتبون الحروف عندما يشاهدونها مكتوبة، تلك المناطق لم ترصد بنشاط مماثل عند نظرائهم ممن يطبعونها!
ولعل الصين تعتبر أفضل مثال حي لعواقب استبدال الكتابة بالطباعة، حيث معاناة الطلبة في القراءة شكلت ازديادا ملحوظا مقارنة بالتسعينيات من القرن الماضي، حين تم إدخال الطباعة كبديل للكتابة في المدارس، وفق دراسة صينية نشرت عام 2013!
تطرقت في مقالي هذا فقط للتحصيل العلمي وكفاءته على الطلبة، دون التطرق للأضرار الصحية المرافقة، التي من شأنها كما نصت دراسة حديثة من جامعة هارفرد أن الإضاءة الزرقاء الناتجة من شاشات التابلت والهواتف الذكية واستخدامها، لاسيما أثناء فترات النوم أو قبل النوم بساعة، تتعارض مع إنتاج عنصر الساعة البيولوجية المنظم للنوم، وهو هرمون الميلاتونين، ما يقلل من كفاءة النوم لدى الطلبة، وقد وجد في الدراسات العلمية الحديثة أنه يتعارض مع فسيولوجية بلوغ الشخص وتطوّره الجسماني!
كل ذلك قد تترتب عليه عواقب بإمكاننا أن نتجنبها بشكل أفضل من خلال تطوير التعليم، تطوير كفاءة المعلمين (لا قصورا بهم) ولا يعني استخدام الوسائل الحديثة، أعتقد من الأفضل حصر الكمبيوترات في المكتبات المدرسية وربطها بشبكة التربية، وحصر المواقع القابلة للدخول، مما يجعل الطالب يجبر بشكل إيجابي أن يركّز على دراسته، ويحد من تشتيت انتباهه كما سبق ذكره في هذه المقالة!