كجزء من حياتنا اليومية نتعرض للمصدر الرئيسي للضوء (الشمس) بفترات متعاقبة مكونة الليل والنهار، تتفاعل أجسام الكائنات الحية مع البيئة بناء على تعاقب الليل والنهار كجزء مهم للحفاظ على سلامة الجسم، يتم ذلك عن طريق ما يسمى بالساعة البيولوجية، ولعل أي اضطراب حاد أو مزمن في الساعة البيولوجية تتبعه اضطرابات صحية، والعكس صحيح كذلك، فترى الاضطرابات الصحية تسبب اضطرابات في الساعة البيولوجية، وهذا الذي لاحظه ابوقراط منذ 400 سنة قبل الميلاد حين قال ان النوم أثناء النهار قد يدل على مرض، بينما عدم القدرة على النوم ليلا يدل على وجود ألم أو معاناة، ثم جاءت بعض الملاحظات في القرون الوسطى أن بعض حالات المرض مثل نوبات الربو يختلف ظهورها باختلاف الوقت خلال اليوم، ثم جاءت الدراسات الحديثة والتي بينت أنه ليس فقط الأعراض الصحية، بل حتى فاعلية الأدوية تختلف باختلاف الليل والنهار والساعة البيولوجية.
يذهب الكثير منا أو ممن هم حولنا للمراكز الصحية، ويتم أحيانا وصف بعض الأدوية بجرعة مرة واحدة في اليوم، فيتساءل الشخص «متى أتناول الدواء؟» ويكون الرد أحيانا «أي وقت» وأحيانا أخرى يكون مقترنا بالوجبات (بعد أو قبل الإفطار، الغداء أو العشاء). في حقيقة الأمر، الموضوع ليس بهذه البساطة، لذلك أود التطرق هنا بشكل مبسط لبعض الأدوية ومتى يكون أفضل وقت لتناولها.
٭ تعتبر نوبات الربو من المشاكل الشائعة وهي تنشأ بسبب نشاط بعض التفاعلات الالتهابية في الجهاز التنفسي، تنشط هذه النوبات في فترات المساء لاسيما أثناء النوم حتى مطلع الفجر، وقد وجد أن تناول حبوب أو مستنشقات مشتقات الكورتزون في فترة العصر يعطي مفعولا أفضل بمعدل 4 مرات مقارنة باستنشاقها صباحا في التقليل من نوبات الربو حسب دراسات سابقة في الولايات المتحدة، كذلك استنشاق موسعات الشعب الهوائية مثل Salmeterol المسمى تجاريا Serevent (على الرغم من أنها غالبا توصف على جرعتين في اليوم) ولكن قد يلاحظ أنها تضفي مفعولا علاجيا أفضل بعد أخذها مساء لضبط نوبات الربو حسب دراسات سويدية سابقة، تناول موانع الربو مثل Montelukast المعروف تجاريا Singulair في فترة المساء أفضل بشكل ملحوظ مقارنة باستخدامه في الفترات الصباحية.
٭ ارتفاع الكوليسترول هو حالة أخرى تخضع لمتغيرات الليل والنهار، يقوم الجسم بتصنيع الكوليسترول بطاقة قصوى أثناء المساء وهي الفترة التي تشكل ما يقارب 40% من كمية الكوليسترول المصنع في الجسم، لذلك تنصح الدراسات (منها دراسة في المملكة المتحدة عام 2003) بتناول حبة مخفضة الكوليسترول مثل Simvastatin المعروف تجاريا Zocor في فترة المساء لتقليل عملية تصنيع الكوليسترول بشكل ملحوظ وعليه للحصول على فائدة أفضل.
٭ التهابات المفاصل، يشعر المصابون بالتهابات المفاصل بآلام المفاصل بشكل أكبر أثناء المساء (وهذا يتوافق مع نظرية أبوقراط السابق ذكرها)، تصل الآلام أقصاها عند الاستيقاظ من النوم، وقد أثبتت دراسة في فنلندا وأستونيا أن تناول مضادات الالتهابات مثل Ibuprofen يكون مفعوله أفضل عند المساء بعد تناول العشاء وذلك لإيقاف عملية بناء التفاعلات الالتهابية التي تكون في أوجها أثناء المساء مسببة آلام الصباح.
٭ الصداع النصفي أحد أبرز أنواع الصداع الشائعة في العصر الحاضر والذي تحفزه عدة عوامل منها الهرمونية-الغذائية-العمرية-الصحية واضطرابات النوم، وقد أثبتت الدراسات والتي منها كانت في الهند، أن فاعلية الحبوب المضادة للصداع النصفي مثل Sumatriptan المسمى تجاريا Imitrex تكون أفضل لو كان تناول الحبة في الفترة الصباحية بشكل ملحوظ مقارنة بتناول مضادات الصداع النصفي لو أخذت مساء.
٭ تعتبر قرحة المعدة من أبرز أمراض العصر كذلك، تظهر قرحة المعدة نتيجة أحد ثلاثة عوامل: التوتر، القلق والتهاب بكتيري (الشائع مسماها بجرثومة المعدة) أو بسبب استخدام مسكنات الآلام غيرالستيرويدية مثل البروفين والاسبرين، ولعل أحد أبرز الأدوية المستخدمة في علاج قرحة المعدة هو مخفضات إفراز الحمض من المعدة، وهناك نوعان من الأدوية التي تخفض إفراز الحمض من المعدة، أول نوع هو المثبط للمستقبلات الهيستامينية مثل Ranitidine المعروف تجاريا Zantac وقد وجدت الدراسات أن تناول الحبة في الفترة المسائية يعطي مفعولا أفضل من تناول الحبة صباحا، بينما هناك النوع الاخر من الأدوية المخفضة لإفراز حمض المعدة وهي المثبطة للمضخات الحمضية في المعدة مثل Omperazole المعروف تجاريا Risek، وقد ثبت علميا أن تناول الحبة في الصباح يعطي مفعولا أفضل في خفض إفرازات حمض المعدة، وهذا ينعكس باستجابة أفضل من الجسم لهذه الأدوية وعليه تحقيق العلاج بشكل أفضل.
٭ حالات ارتفاع ضغط الدم التلقائي المزمنة والتي تتطلب تدخلا علاجيا، يوصف لها الكثير من الأدوية التي تتناول مرة في اليوم، يجب كذلك الأخذ في الاعتبار الفترة الزمنية المناسبة لتناول الدواء، فضغط الدم غالبا ما يكون مرتفعا في الفترة الصباحية، حيث يكون الشخص في مواجهة الحياة ومختلف ضغوطاتها بالإضافة لعمل الساعة البيولوجية المتأثر بالفترة الصباحية، بينما يستقر ضغط الدم في الفترة المسائية ويكون أقل مما كان عليه في النهار نتيجة ارتفاع هرمون الساعة البيولوجية (ميلاتونين)، لذلك يعتبر تناول الحبوب الخافضة أو المنظمة للضغط أفضل ما يكون في الفترة الصباحية، وذلك لخفض الارتفاع المتوقع في ضغط الدم، بالإضافة لتجنب تأثير مفعول إدرار البول في المساء، والذي قد يسبب اضطرابا في النوم ويترتب عليه اضطراب في الساعة البيولوجية قد يترتب عليه ارتفاع في ضغط الدم.
أتمنى أن اكون قد أوضحت لك عزيزي القارئ مدى أهمية تعاقب الليل والنهار في التأثير على الساعة البيولوجية، وبالتالي التأثير في وظائف جسم الإنسان ما يترتب عليه التأثير في مفعول الدواء، لذلك عزيزي القارئ عندما يعطيك الصيدلاني التعليمات بتناول الحبة «حبة واحدة في اليوم»، أود أن أشدد على اهتمامك بأن تسأل «متى الوقت المناسب لتناول هذه الحبة؟»، كذلك عزيزي القارئ لا تهمل أي عرض مرضي أو صحي قد يظهر في الصباح ويغيب في المساء أو العكس، حيث ان هناك العديد من العمليات الحيوية التي تنشط صباحا وتخمل ليلا والعكس، كما هو مع الحالات التي ذكرناها سلفا وغيرها.
أتمنى لكم عاما جديدا مليئا بالخير والبركات ودوام الصحة والعافية.